الجوهرة الزرقاء، مدينة شفشاون
يعتبر الأزرق من أكثر الألون التي تضفي إحساسا بالراحة على النفس البشرية، إذ يضفي أجواء من الراحة والطمأنينة كما يساعد على الإسترخاء بشكل فعال للغاية، والدليل على هذا هو أننا دائما ما نحب الأجواء التي يتجانس فيها لون البحر مع لون السماء إذ تجعلنا نحس بصفاء الذهن وهدوء الروح. واللون الأزرق ليس مجرد مصدر إسترخاء بل إنه يتم إستخدامه مثل اللون الأبيض من أجل إعطاء فكرة عن السلام والصداقة والتآلف، ولهذا السبب قرر مجموعة من الناس تلوين مدينتهم بالكامل باللون الأزرق، والتي لم يكن في علمهم بأنها ستجعل من مدينتهم واحدة من أهم المدن السياحية في المغري حاليا وستسمى بالجوهرة الزرقاء.
بعد سقوط الأندلس والتي أعلنت بدورها سقوط المملكة الإسلامية في إسبانيا، بقي مجموعة من المسلمين تحت الحكم الجديد، وما حصل هو أن الحاكمين الجدد لإسبانيا عرضو على هاته المجموعات إما أن يعتنقو المسيحية أو يتركو البلاد ويرحلو للعيش بمكان آخر، وفي الفترة مابين 1609 و 1614 أجبرت الحكومة الأسبانية المسلمين المتبقين في إسبانيا على مغادرتها واللجوء لشمال إفريقيا، والمجموعات المسلمة المتبقية من المملكة الإسلامية هناك أطلق عليها إسم الموريسكيين، هؤلاء الموريسكيين تم تهجيرهم من البلاد لدول شمال إفريقيا والشام وتركيا، وإستقرو بكثرة في الجزائر وتونس والمغرب وليبيا، والمجموعة الذين سكنو المغرب إستقرو بالضبط في مدينة شفشاون. هذه المدينة التي تقع في شمال المغرب تأسست للمرة الأولى عام 1471 ميلادية في الوقت الذي سقطت فيه المدن الساحلية مثل طنجة في أيادي البرتغاليين. بنيت شفشاون على يد الأمير والقائد العسكري أبو الحسن علي بن راشد الشهير بإسم مولاي علي بن راشد. وقد بنيت المدينة لسببين:
السبب الأول هو تفكير القائد في إنشاء مقاومة محلية يستطيع بها صد التوسع البرتغالي في المغرب، وبناء على ذلك قرر بناء المدينة في سفوح جبلية على سلسلة جبال الريف في أقصى شمال المغرب، لتصبح بذلك مصد للإحتلال البرتغالي خصوصا بتضاريسها الحادة، إذ تتميز شفشاون بتضاريس جبلية صعبة ذات إنحدارات جبلية وأودية منخفضة. وقد إشتق إسم هذه المدينة من لفظ Chef الأمازيغي الذي يعني "أنظر" و لفظ Chaouen الذي يعني "القرون". والجملة بأكملها هي "أنظر القرون" و هي إشارة للقمم الجبلية التي تحتضن المدينة من كل الجهات والتي تشبه القرون.
أما السبب الثاني الذي بنيت المدينة لأجله هو أن يتخذ منها الأمير حصنا يتمثل في مسكن ومأوى للموريسكيين الذين أجبرو على الخروج من الأندلس و توجهو للمغرب، وبعد إستقرار الموريسكيين في المدينة توالت عملية البناء من أجل توسيعها أكثر لكي تستقبل عددا أكبر من اللاجئين الموريسكيين، ومن ضمن أشهر هذه التوسعات هو الحي المعروف بإسم حي الأندلس، والذي بني خصيصا لكي يسكنه الفوج الثاني القادم من الأندلس.
عند النزول لأول مرة على أرض شفشاون مع إشراقة شمس الصباح بخيوطها الذهبية ستجد المدينة منورة بلونها الأزرق وكأنك فتحت جوهرة زرقاء داخل صدفة، ولأن شفشاون مدينة كاملة وليست بالجوهرة الصغيرة فإنك ستحس كأنك تتمشى بين طبقات السماء، لكن الفرق هو أن رائحة التوابل سترافقك طوال الرحلة. والسبب في لمعان شفشاون باللون الأزرق هو أن المدينة ملونة بالكامل باللون الأزرق والأبيض وكأنها لوحة فنية، فاللون الازرق يطغى بكثرة على المدينة إذ تتلون به جدران البيوت والشوارع والبنايات وأعمدة الكهرباء والأزقة، ومع وجود أحواض المياه العذبة والشلالات التي تملأ المدينة وإمتزاج ألوانها مع ألوان المدينة يكتمل بذلك سحر المكان وجماله، إذ ستحس وكأنك تقف في متحف فخم للفنون، وستضطر للوقوف أمام كل شارع من هذه المدينة من أجل إستيعاب وتأمل جماله.
بالرغم من جمال وبهجة مدينة شفشاون، إلا أن سحرها لا يقتصر على ألوانها وحسب، فالمدينة تتميز بهدوئها وشعبها المتعاون الذي تستطيع تمييزه بسهولة بين السياح بسبب تمسك بطبيعته الجبلية الأصيلة، ويرفضون تغيير عاداتهم التي تميزهم على الرغم من إختلاطهم بثقافات متعددة نظرا لكون شفشاون مدينة سياحية. يتميز سكان شفشاون بالبساطة سواء في تعاملهم مع الغير أو في أزيائهم أو في أسلوب حياتهم الخالي تماما من التعقيد. يملأ شوارع المدينة الزرقاء السكان الجبليين الذي يرتدون الملابس التقليدية للمدينة والتي هي عبارة عن زي للنساء على شكل حجاب تقليدي، وثوب أبيض مخطط بالأحمر ملفوف أشبه بالملاية، وعليه وشاح ملفوف على الأكتاف والرأس. وبالنسبة للرجال فهم يرتدون جلبابا من الصوف مصنوعا صناعة يدوية، إضافة للقبعة التي تعتبر شيئا أساسيا لأي شخص جبلي لتجنب حرارة الشمس المرتفعة. وعادة مايشتغل رجال وأهل المدينة في عرض وبيع السلعة المحلية الصنع في الشوارع، ولو قررت إقتناء أي منتوج هناك فلن تجد أية مشاكل على الإطلاق، بل على العكس ستحد لطافة ومعاملة طيبة من أهل المدينة كشخص غريب عن المكان.
بالرغم من الروايات الكثيرة التي تحكي قصة اللون الأزرق في مدينة شفشاون وإعتمادهم له كلون رسمي للبيوت والشوارع والأزقة، إلا أن الأقرب للحقيقة هي الرواية التي تنسب اللون للموريسكيين، فهؤلاء الموريسكيون هم المسلمون الذين إضطرو لترك بيوتهم في الأندلس بعدما أجبرو على إعتناق المسيحية، وتعرضو لإضطهاد ديني كبير بعد سقوط الأندلس إلى أن طردو من البلاد، فقررو تلوين مدينتهم الجديدة بالكامل باللون الأزرق الممزوج بالأبيض كرمز سلام تسامح تجاه الشعب المغربي، والسبب وراء إختيارهم لهذين اللونين هو إشتراكهم في الدلالة على التسامح والصفاء. ولم يكن الموريسكييون يعلمون بأن خطوتهم هذه سيكون لها الفضل في إطلاق إسم الجوهرة الزرقاء على المدينة، وقامو بتحويلها من مجرد مدينة جبلية عادية وسط الجبال إلى واحدة من أجمل مدن العالم.
ستعطيك مدينة شفشاون الفرصة لإستكشاف العديد من المعالم بغض النظر على أن مجرد التجول في شوارعها يعتبر سياحة وشيئا مميزا جدا. فإذا كنت من محبي القطط فشفشاون حتما ستكون المفضلة لديك، لأنك ستجد قططا في كل أرجاء المدينة، والسبب هو أن أهل شفشاون يفضلون تربية القطط والإعتناء بها وهي في الشارع على أن يحبسوها في المنازل والبيوت، وبالتالي ستجد أن القطط هناك مستأنسة ونظيفة وتتميز باللطف.
أما بالنسبة لأكثر الأماكن جذبا للسياح في شفشاون فهي ساحة وطاء الحمام، الساحة ذات المعالم الأثرية بالطابع الأندلسي والتي شهدت تاريخ تجاري وإقتصادي ضخم، فالتجار كانو يتخدون منها ساحة لممارسة تجارتهم وبيع منتجاتهم مثل الكبريت والغاز والحبوب، مما جعل الساحة مأوى للطيور والحمام، وقد سميت الساحة بوطاء الحمام نسبة للحمام العام الذي كان بجوارها والذي كان يغتسل به الناس ويتوضؤن، وذلك للخروج مستعدين للعبادة في المسجد الأعظم الموجود في نفس الساحة، والذي سيهيئ لك وكأنك موجود بالأندلس، بسبب معماره الذي يعتبر من نفس الطراز.
وبعد أن تتجول في ساحة وطاء الحمام وتلقي نظرة على كل معالمهم والتي ستأخذك إلى إسبانيا بدون أن تشعر، فمن الضروري بعدها أن تزور رأس الماء، والذي يعتبر من أهم مصادر السياحة في شفشاون بفضل إمتلاكه مناظر خلابة من شلالات طبيعية ومساحات خضراء مليئة بالأشجار المختلفة، وبجانب هذا فهو يعتبر أول منبع للمياه في شفشاون بأكملها، ويستخدم كمصدر للمياه العذبة والمياه الصالحة للزراعة. وبطبيعة الحال فشفشاون تعتبر جميلة بالكامل وتستحق الزيارة بالفعل.